يتحدّث المتبارون في برنامج «ذا سيركل» مع المنصّة وكأنّها «أليكسا» أو «سيري». ولكن ما الذي يحصل فعلاً هناك؟ في برامج تلفزيون الواقع التقليدية، تنحصر مهمّة العالم الرقمي فقط باستضافة المحادثات الشيّقة الصادرة عن المشاهدين، مما يمنع متباري برنامج «ذا باتشلور» (الأعزب) مثلاً من استخدام هواتفهم أو الاتصال بشبكة الإنترنت أثناء التصوير. ولكنّ برنامج تلفزيون الواقع «ذا سيركل» على «نتفليكس» قلب هذا المعيار رأساً على عقب لأنّ الحركة فيه تحصل على مواقع التواصل الاجتماعي حصراً.
منصة «سيركل»
لا يُسمح لمتباري هذا البرنامج المحصورين في شقق سكنية مصممة لتناسب شخصية الدور الذي يلعبونه، بالتواصل مع بعضهم وجهاً لوجه (ما يترك مجالاً للتنافس مع شخص آخر، أو لانتحال الشخصية). يتواصل هؤلاء عبر «سيركل» Circle، «منصّة تواصل اجتماعي تعمل بالصوت» تظهر على شاشات التلفاز المتعدّدة الموجودة في الشقة. تتضمّن «سيركل» نسخة مصغّرة عن جميع الميزات التي يتوقّع المستخدم الحصول عليها على مواقع التواصل الاجتماعي كصورة الملفّ الشخصي، وما يُعرف بالـBio أو الشريط المخصص لمشاركة معلومات خاصّة، وصفحة للأخبار الجديدة، وباب للمحادثة. يصنّف المتبارون بعضهم البعض بناءً على هذه الملفات الشخصية أو التفاعلات، ويفوز من يصمد حتّى النهاية بجائزة قدرها 100 ألف دولار.
تُبقي محدودية هذه الإمكانات السيطرة في يد المنتجين، مما يتيح لهم التلاعب بحبكة البرنامج لزيادة التشويق. يستطيع المتبارون في الحلقة الأولى مثلاً أن يختاروا صورة واحدة فقط من الألبومات المتوفّرة لنشرها كصورة شخصية لهم. أثناء اختيارهم للصورة، يشرحون خياراهم وآلية اتخاذ القرار أمام الكاميرات. يخشى أنطونيو، لاعب كرة السلّة المحترف، أن يعتبره زملاؤه مغروراً إذا اختار لنفسه صورة ملف شخصي يظهر فيها دون قميص. أمّا كارن، التي تخدع أصدقاءها من خلال انتحال شخصية «مرسيديزي» وتستخدم صورة شخص آخر، فتعتبر أنّ «الانطباعات الأولى هي الأهمّ». تتحدّث كارن أثناء تقليبها لصور مرسيديزي، مع المنصّة مستخدمة النبرة المتكلّفة نفسها التي تستخدمها مع «سيري» أو «أليكسا»، فتقول: «سيركل، كبّري الصورة التي أرتدي فيها المشمل الأزرق». وبطريقة سحرية، تعرض «سيركل» الصورة الصحيحة لشخصية كارن البديلة.
في هذه اللحظة تحديداً، بدأتُ أتساءل عن ماهية «سيركل» نفسها وكيف تعمل. صحيح أنّ التواصل مع المساعدين الرقميين بات أمراً عادياً وشائعاً في أيّامنا هذه، ولكنّ قدرات هذه الآلات لا تزال محدودة لأنّ الكومبيوتر لا يستطيع فهم الحديث والسياق كما البشر. لن يواجه البشر صعوبة في اختيار صور مرسيديزي بالمشمل (وزرة أو ثياب العمل) الأزرق مع أنّها تظهر الجزء الأعلى من منطقة الصدر فقط، إلّا أنّ هذه المهمّة قد تسبب بعض الارتباك لجهاز كومبيوتر عادي: ما هو المشمل؟ وكيف يمكن التمييز بين ارتدائها لمشمل أو مجرّد قميص أزرق؟
كومبيوتر وأشخاص
ومع استمرار البرنامج، تتزايد اللحظات التي من شأنها أن تربك أي كومبيوتر عادي. يأمر المتبارون «سيركل» بإرسال رموز إيموجي من جميع الأنواع (رمز القلب في معظم الأحيان)؛ وتقول جاين سي. هو في موقع «سليت.كوم» إنها عندما تطلب من سيري تأليف نصّ مع رمز قلب، فإن سيري يكتب ببساطة «رمز قلب». نادراً ما يقع البشر في خطأ مماثل، ولكنّ أجهزة الكومبيوتر تفعلها دائماً، لأّنها لا تفهم ولا بأي شكل، أنني أقصد الذهاب إلى قسم الإيموجي للبحث عن رمز يناسب التوصيف الذي أعطيتها إيّاه وليس تدوين ما تفوّهت به.
ولكن في برنامج «ذا سيركل»، ينجح الكومبيوتر دائماً وبطريقة سحرية بقراءة أفكار المتبارين. وعندما يتنقّل المتبارون بين الحديث إلى الكاميرا وكتابة الرسائل التي يريدون إرسالها عبر «سيركل»، يبدو الكومبيوتر وكأنّه يعرف تماماً متى يجب أن يبدأ في طباعة الرسالة.
هنا، يوجد احتمالان فقط: الأوّل هو أنّ منتجي هذا البرنامج طوّروا تقنية فائقة الذكاء تتميّز بحساسية عالية تمكّنها من تمييز الفروقات الطفيفة في الكلام البشري على عكس معظم أجهزة المساعدة الرقمية المتطوّرة المتوفرة في السوق. تعكس الصورة التي تظهر لنا في البرنامج، والتي تتضمّن الكثير من الأسلاك وألواح الدوائر الكهربائية رغبة المنتجين بإقناعنا أن التقنية هي أساس العمل في هذا البرنامج.
ولكنّ الاحتمال الثاني والأكثر قابلية للتصديق، هو أنّ هذه «المنصّة التي تعمل بالصوت» تقف خلفها مجموعة من البشر الذين يتولّون الطباعة في خلفية المشهد، فيقومون بتحويل كلام المتبارين إلى نصوص ويرسلون الرسائل إلى شاشاتهم. للحصول على معلومات أكثر حول هذا النظام «العامل بالصوت»، تواصلت مع «نيتفلكس» و«ستوديو لامبرت»، شركة الإنتاج المسؤولة عن «ذا سيركل»، ولكنّ الطرفين رفضا التعليق.
وفي حال تبيّن أخيراً أنّ «ذا سيركل» هي عبارة عن مجموعة من المنتجين التلفزيونيين «العاملين بالصوت»، لن تكون هذه المرّة الأولى التي يتمّ فيها تمرير عمل البشر على أنّه أنظمة كومبيوتر متطوّرة. ففي عام 2018. قدّم الصحافي الاستقصائي ديفيد فارير تحقيقاً مفصّلاً عن مساعد رقمي اسمه زاك يقف خلفه رجل واحد يدّعي أنّه ذكاء صناعي «يسجّل» الملاحظات الطبية. في ذلك الوقت، كانت شركة «إكس إي آي». (X.ai) الناشئة قد وعدت المستخدمين بتقديم مساعد شخصي مدعوم بالذكاء الصناعي، ولكنّها في الحقيقة كانت تستعين بـ«مدرّبين» بشر يقومون بالحمل الأكبر من الأعمال. اعتمدت خدمات ذكاء صناعي أخرى أيضاً كروبوت «كلارا» الذي يعمل في جدولة الرسائل الإلكترونية، و«إم» (M) مساعد «فيسبوك» الشخصي (المتوقّف عن العمل حالياً) على البشر لمراقبة التفاعلات.
نشرت خبيرة التعلم الآلي جانيل شين مقالاً في موقع «فيوتشر تينس» تحدّثت فيه عن إمكانية رصد البشر الذين يدّعون أنّهم روبوتات. إنّ بناء نظام ذكاء صناعي مستقلّ بالكامل قادر على فهم الخطاب البشري والتفاعل معه أمر صعب جداً. وإذا اعتمدنا على تفسير نظري، يتبيّن لنا أنّ معالجة اللغة الطبيعية الممتازة التي تصدر عن «سيركل» مدعومة دون شكّ بأشخاص يطبعون بسرعة النصوص ويرسلونها إلى شاشات المتبارين، وليس نظام ذكاء صناعي مطوّر لهذا البرنامج حصراً.
بشر لا روبوتات
إذا اتضح أنّ «ذا سيركل» مُدار فعلاً من قبل مجموعة بشرية، ستضفي هذه الحقيقة أبعاداً جديدة على البرنامج. بعد مشاهدة عدّة حلقات، رصدت تفاوتات في أداء المنصّة في كتابة النصوص: ففي بعض الأحيان، يضيف المتبارون تفاصيل خاصّة بالترقيم، ويطلبون وضع علامة استفهام أو نقطة في نهاية إحدى الجمل مثلاً، ولكنّ ينتهي الأمر بـ«سيركل» بوضع علامة الترقيم الصحيحة والمناسبة للجملة حتّى ولو لم تتلقَّ أمراً من المتباري. تظهر رسائل بعض المتبارين بحروف صغيرة أو قد تتضمّن بعض الحذف؛ وعند نسخ رسائل أطول، ترسل «سيركل» أحياناً النصّ كاملاً على شكل رسالة طويلة ومرقّمة، بينما ترسله على شكل عدّة جمل قصيرة غير مرقّمة في أحيانٍ أخرى.
قد تبدو هذه الإشارات الصغيرة غير مهمّة، ولكنّها تلعب دوراً مهمّاً في كيفية فهم الناس للرسائل، وتحديداً أولئك الذين يستخدمون الرسائل النصية كثيراً. في كتابها الأخير «لأنّ الإنترنت»، قالت غريتشن ماك كولوتش إنّها خصّصت فصلاً كاملاً تشرحُ فيه دور الفروقات الطفيفة في حجم الحروف، وعلامات الترقيم، وفواصل الأسطر في المساحات الإلكترونية، في إثبات نظرية أسمتها «النبرة المطبعية للصوت». تعكس الرسائل المؤلفة من عدّة جمل مرقّمة، رسمية وجموداً في التواصل، بينما يمنح تعدّد الرسائل المتلقّي شعوراً بالراحة أثناء المحادثة لأنّه يترك له وقتاً أطول ومساحة أكبر للردّ. فعندما يبدأ الناس عادة محادثة وجهاً لوجه مع أحدهم، نادراً ما يُتبعون عبارة السلام بنصّ كتبوه وحفظوه عن ظهر قلب.
في المقابل، يعطي غياب الترقيم في الرسائل انطباعاً غير رسمي للنبرة المستخدمة، بينما تمنح الأحرف المتكرّرة والكبيرة شعوراً بالحماسة أو التوكيد. وهنا، لا بدّ من التشديد على أنّ «سيركل» تضيف هذه العناصر دون طلب واضح من المتبارين، وترصد كيف يستخدمون النصوص للتعبير عن عواطفهم في لحظات معيّنة.
من ناحية أخرى، ترسم هذه المنصّة الغريبة لمحة عن التغيير الذي قد تشهده علاقتنا مع التقنيات العاملة بالصوت مع الوقت، إذا تمكّن الذكاء الصناعي يوماً من التعامل معنا بالطريقة التي تتعامل فيها «سيركل» مع المتبارين.
في الحلقات الأولى، كان المتبارون يتكلّمون بطريقة غريبة مع «سيركل»؛ ففي المشاهد الأولى، كانت كارن (المعروفة بـ«مرسيديزي») تلفظ اسم «سيركل» في كلّ أمر، حتّى أنّها كانت تهنّئها بعد كلّ أداء ناجح تقدّمه. ولكن مع الوصول إلى الحلقة الرابعة، أصبح المتبارون أكثر عملية ويصدرون أوامر مختصرة، كالاكتفاء بكلمة «رسالة» ليدفعوا «سيركل» إلى كتابة نص جديد، وكلمة «أرسل» للإرسال، بالإضافة إلى اعتماد نبرات طبيعية أكثر خلال إملاء الرسائل كما لو أنّهم يتكلّمون مع الشخص الآخر مباشرة.
وأخيراً، بعيداً عن حقيقة «سيركل» الخفيّة، لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذا البرنامج مرعب لأنّه يقدّم فكرة عن العادات الإدمانية التي تسيطر على حياتنا الإلكترونية، وعلى الصعوبة التي نواجهها لإخفاء اندفاعاتنا بهدف الحفاظ على انطباعات الآخرين الحسنة عنّا وتفادي الأحكام، رغم علمنا أنّنا أمام واجهة ذات بعد واحد. ولا شكّ في أنّ هذه الحالة ستستمرّ مع أو من دون ذكاء صناعي يعمل بالأوامر الصوتية.